الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله : العبادات التي جاءت على وجوه متنوعة قد تقدم القول في مواضع: أن العبادات التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم على أنواع يشرع فعلها على جميع تلك الأنـواع، لا يكـره منها شـيء، وذلك مثـل أنـواع التشهدات، وأنـواع الاستفتاح، ومثل الوتر أول الليل وآخره، ومثل الجهر بالقراءة في قيام الليل والمخافتة، وأنواع القراءات التي أنزل القرآن عليها، والتكبير في العيد، ومثل الترجيع في الأذان وتركه، ومثل إفراد الإقامة وتثنيتها. وقد بسطنا في جواب مسائل الزرعية وغيرها أن ما اختلف فيه العلماء وأراد الإنسان أن يحتاط فيه فهو نوعان: أحدهما: ما اتفقوا فيه على جواز الأمرين، ولكن تنازعوا: أيهما أفضل؟ /والثاني: ما تنازعوا فيه في جواز أحدهما، وكثير مما تنازعوا فيه قد جاءت السنة فيه بالأمرين، مثل الحج. قيل: لا يجوز فسخ الحج إلى العمرة، بل قيل: ولا تجوز المتعة، وقيل: بل ذلك واجب، والصحيح أن كليهما جائز. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة في حجة الوداع بالفسخ، وقد كان خيرهم بين الثلاثة، وقد حج الخلفاء بعده ولم يفسخوا، كما بسط في موضعه. وكذلك الصوم في السفر قيل: لا يجوز، بل يجب الفطر، والصحيح الذي عليه الجمهور جواز الأمرين. ثم قال كثير منهم: إن الصوم أفضل. والصحيح أن الفطر أفضل إلا لمصلحة راجحة، وما قال أحد: إنه لا يجوز الفطر، كما يظنه بعض الجهال، وهذا مبسوط في مواضع. والمقصود هنا أن ما جاءت به السنة على وجوه ـ كالأذان، والإقامة وصلاة الخوف، والاستفتاح ـ فالكلام فيه من مقامين: أحدهما: في جـواز تلك الوجوه كلها بلا كراهة، وهذا هو الصواب، وهو مذهب أحمد وغيره في هذا كله. ومن العلماء من قد يكرِّه، أو يحرم بعض تلك الوجوه؛ لظنه أن السنـة لـم تـأت به، أو أنه منسوخ. كما كره طائفة الترجيع في الأذان، وقالوا: إنما قاله لأبي/ محذورة تلقينًا للإسلام لا تعليما للأذان. والصواب أنه جعله من الأذان وهذا هو الذي فهمه أبو محـذورة، وقـد عمل بذلك هو وولده والمسلمون يقرونهم على ذلك بمكة وغيرها. وكره طائفة الأذان بلا ترجيع، وهو غلط ـ أيضًا ـ فإن أذان بلال الثابت ليس فيه ترجيع، وكره طائفة ترجيعها، وكره طائفة صلاة الخوف إلا على حديث ابن عمر، وكره آخرون ما أمر به هؤلاء. والصواب في هذا كله أن كل ما جاءت به السنة فلا كراهة لشيء منه، بل هو جائز، وهذا مبسوط في مواضع. والمقصود هنا هو: المقام الثاني. وهو أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع متنوعة. وإن قيل: إن بعض تلك الأنواع أفضل، فالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة أفضل من لزوم أحد الأمرين، وهجر الآخر، وهذا مثل الاستفتاح. ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال:قلت: يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول:(اللهم بعد بيني وبين خطاياي، كما بعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) ولم يخرج البخاري في الاستفتاح شيئا إلا/هذا، وهو أقوي الحجج على الاستفتاح في المكتوبة، فإنه صريح في ذلك بقوله: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة؟ وهذا سؤال عن السكوت، لا عن القول سرًا، ويشهد له حديث سمرة،وحديث أبي بن كعب، أنه كان له سكتتان. وأيضًا، فللناس في الصلاة أقوال: أحدها: أنه لا سكوت فيها كقول مالك، ولا يستحب عنده استفتاح، ولا استعاذة، ولا سكوت لقراءة الإمام. والثاني: أنه ليس فيها إلا سكوت واحد للاستفتاح: كقول أبي حنيفة، لأن هذا الحديث يدل على هذه السكتة. والثالث: أن فيها سكتتين، كما في حديث السنن. لكن روي فيه أنه يسكت إذا فرغ من القراءة، وهو الصحيح. وروي إذا فرغ من الفاتحة، فقال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد: يستحب ثلاث سكتات. وسكتـة الفاتحـة جعلها أصحاب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد ليقرأ المأموم الفاتحة. والصحيح أنه لا يستحب إلا سكتتان، فليس في الحديث إلا ذلك، وإحدي الروايتـين غلط، وإلا كانت ثلاثًا،/ وهذا هو المنصوص عن أحمد. وأنه لا يستحب إلا سكتتان، والثانية عند الفراغ من القراءة للاستراحة، والفصل بينها وبين الركوع. وأما السكوت عقيب الفاتحة، فلا يستحبه أحمد، كما لا يستحبه مالك وأبو حنيفة، والجمهور لا يستحبون أن يسكت الإمام ليقرأ المأموم. وذلك أن قراءة المأموم عندهم إذا جهر الإمام ليست بواجبة، ولا مستحبة، بل هي منهي عنها، وهل تبطل الصلاة إذا قرأ مع الإمام؟ فيه وجهان في مذهب أحمد، فهو إذا كان يسمع قراءة الإمام فاستماعه أفضل من قراءته، كاستماعه لما زاد على الفاتحة، فيحصل له مقصود القراءة، والاستماع بدل عن قراءته، فجمعه بين الاستماع والقراءة جمع بين البدل والمبدل؛ ولهذا لم يستحب أحمد وجمهور أصحابه قراءته في سكتات الإمام إلا أن يسكت سكوتًا بليغًا يتسع للاستفتاح والقراءة. وأما إن ضاق عنهما، فقوله وقول أكثر أصحابه: إن الاستفتاح أولي من القراءة، بل هو في إحدي الروايتين يأمر بالاستفتاح مع جهر الإمام، فإذا كان الإمام ممن يسكت عقيب الفاتحة سكوتًا يتسع للقراءة، فالقراءة فيه أفضل من عدم القراءة، لكن هل يقال: القراءة فيه بالفاتحة أفضل للاختلاف في وجوبها أو بغيرها من القرآن؛ لكونه قد استمعها؟ هذا فيه نزاع. ومقتضى نصوص أحمد وأكثر أصحابه أن/ القراءة بغيرها أفضل، فإنه لا يستحب أن يقرأ بها مع استماعه قراءتها وعامة السلف الذين كرهوا القراءة خلف الإمام هو فيما إذا جهر. ولم يكن أكثر الأئمة يسكت عقب الفاتحة سكوتًا طويلا. وكان الذي يقرأ حال الجهر قليلا. وهذا منهي عنه بالكتاب والسنة، وعلى النهي عنه جمهور السلف والخلف، وفي بطلان الصلاة بذلك نزاع. ومـن العلماء مـن يقـول: يقـرأ حال جهـره بالفاتحة. وإن لم يقرأ بها ففي بطلان صـلاته أيضا نزاع، فالنزاع من الطرفين، لكن الذين ينهون عن القراءة مع الإمام هم جمهور السلف والخلف، ومعهم الكتاب والسنة الصحيحة، والذين أوجبوها على المأموم في حـال الجهـر هكذا. فحـديثهم قـد ضعفـه الأئمـة، ورواه أبو داود. وقـولـه في حـديث أبي موسي: (وإذا قرأ فأنصتوا) صححه أحمد وإسحاق ومسلم بن الحجاج وغيرهم، وعلله البخاري بأنـه اختلف فيـه، وليس ذلك بقادح في صحته. بخلاف ذلك الحديث، فإنه لم يخـرج في الصحيح، وضعفه ثابت من وجوه. وإنما هو قول عبادة بن الصامت، بل يفعـل في سكـوته ما يشرع من الاستفتاح والاستعاذة، ولو لم يسكت الإمام سكوتًا يتسع لذلك، أو لم يدرك سكوته، فهل يستفتح ويستعيذ مع جهر الإمام؟ فيه ثلاث روايات: إحداها: يستفتح ويستعيذ مع جهر الإمام وإن لم يقرأ؛ لأن/ مقصود القراءة حصل بالاستماع، وهو لا يسمع استفتاحه واستعاذته إذ كان الإمام يفعل ذلك سرًا. والثانية: يستفتح ولا يستعيذ؛ لأن الاستعاذة تراد للقراءة، وهو لا يقرأ، وأما الاستفتاح فهو تابع لتكبيرة الافتتاح. والثالثة: لا يستفتح ولا يستعيذ، وهو أصح، وهو قول أكثر العلماء، كمالك والشافعي، وكذا أبو حنيفة ـ فيما أظن ـ لأنه مأمور بالإنصات والاستماع، فلا يتكلم بغير ذلك؛ ولأنه ممنوع من القراءة، فكذا يمنع من ذلك. وكثير من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم يقول: منعه أولى؛ لأن القراءة واجبة، وقد سقطت بالاستماع؛ لكن مذهب أحمد ليس منعه من القراءة أوكد. فإن القراءة عنده لا تجب على المأموم لا سرًا ولا جهرًا، وإن اختلف في وجوبها على المأموم، فقد اختلف في وجوب الاستفتاح والاستعاذة. وفي مذهبه في ذلك قولان مشهوران. ومن حجة من يأمر بهما عند الجهر أنهما واجبان لم يجعل عنهما بدل، بخلاف القراءة فإنه جعل منها بدل وهو الاستماع، لكن الصحيح أن ذلك ليس بواجب، والاستعاذة إنما أمر بها من يقرأ، والأمر باستماع قراءة الإمام والإنصات له مذكور في القرآن، وفي السنة الصحيحة، وهو/إجماع الأمة فيما زاد على الفاتحة، وهو قول جماهير السلف من الصحابة وغيرهم في الفاتحة وغيرها، وهو أحد قولي الشافعي، واختاره طائفة من حذاق أصحابه: كالرازي، وأبي محمد بن عبد السلام، فإن القراءة مع جهر الإمام منكر مخالف للكتاب والسنة، وما كان عليه عامة الصحابة. ولكن طائفة من أصحاب أحمد استحبوا للمأموم القراءة في سكتات الإمام. ومنهم من استحب أن يقرأ بالفاتحة وإن جهر، وهو اختيار جدي. كما استحب ذلك طائفة منهم الأوزاعي وغيره، واستحب بعضهم للإمام أن يسكت عقب الفاتحة ليقرأ من خلفه، وأحمد لم يستحب هذا السكوت، فإنه لا يستحب القراءة إذا جهر الإمام؛ وبسط هذا له موضع آ خر. والمقصود هنا أن سكوت الاستفتاح ثبت بهذا الحديث الصحيح. ومع هذا، فعامة العلماء ـ من الصحابة ومن بعدهم ـ يستحبون الاستفتاح بغيره كما يستحب جمهورهم الاستفتاح بقوله: (سبحانك اللهم) وقد بينا سبب ذلك في غير هذا الموضع، وهو أن فضل بعض الذكر على بعض هو لأجل ما اختص به الفاضل، لا لأجل إسناده. والذكر ثلاثة أنواع أفضله ما كان ثناء على الله ، ثم ما كان إنشاء من العبد، أو اعترافا بما يجب للَّه عليه، ثم ما كان دعاء من العبد. /فالأول: مثل النصف الأول من الفاتحة، ومثل: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالي جدك، ولا إله غيرك) ، ومثل التسبيح في الركوع والسجود. والثاني: مثل قوله: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) ، ومثل قوله في الركوع والسجود: (اللهم لك ركعت ولك سجدت) وكما في حديث على الذي رواه مسلم. والثالث: مثل قوله: (اللهم بَعِّد بيني وبين خطاياي) ومثل دعائه في الركوع والسجود. ولهذا أوجب طائفة من أصحاب أحمد ما كان ثناء، كما أوجبوا الاستفتاح. وحكي في ذلك عن أحمد روايتان، واختار ابن بطة وغيره وجوب ذلك، وهذا لبسطه موضع آخر. والمقصود هنا أن النوع المفضول مثل الاستفتاح الذي رواه أبو هريرة، ومثل الاستفتاح بوجهت، أو سبحانك اللهم، عند من يفضل الآخر، فِعْلُه ـ أحيانًا ـ أفضل من المداومة على نوع، وهجر نوع، وذلك أن أفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول في خطبة الجمعة: (خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم). ولم يكن يداوم على استفتاح واحد قطعًا. فإن حديث أبي هريرة يدل على أنه كان يستفتح بهذا. /فإن قيل: كان يداوم عليه، فكانت المداومة عليه أفضل، قلنا: لم يقل هذا أحد من العلماء ـ فيما علمناه ـ فَعُلِم أنه لم يكن يداوم عليه. وأيضًا، فقد كان عمر يجهر: (بسبحانك اللهم وبحمدك) يعلمها الناس. ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها في الفريضة، ما فعل ذلك عمر. وأقره المسلمون. وكما كان بعضهم يجهر بالاستعاذة، وكذلك قيل في جهر جماعة منهم بالبسملة: إنه كان لتعليم الناس قراءتها، كما جهر من جهر منهم بالاستعاذة والاستفتاح، وكما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة؛ ولهذا كان الصواب هو المنصوص عن أحمد أنه يستحب الجهر ـ أحيانا ـ بذلك، فيستحب الجهر بالبسملة ـ أحيانًا ـ ونص قوم على أنه كان يجهر بها إذا صلى بالمدينة، فظن القاضي أن ذلك لأن أهل المدينة شيعة يجهرون بها، وينكرون على من لم يجهر بها؛ لأن القاضي لما حج كان قد ظهر بها التشيع، واستولى عليها وعلى أهل مكة العبيديون المصريون، وقطعوا الحج من العراق مدة وإنما حج القاضي من الشام. والصواب أن أحمد لم يأمر بالجهر لذلك، بل لأن أهل المدينة على عهده كانوا لايقرؤون بها سرًا ولا جهرًا، كما هو مذهب مالك، فأراد أن يجهر بها كما جهر بها من جهر من الصحابة تعليمًا للسنة، وأنه يستحب قراءتها في الجملة. وقد استحب أحمد ـ أيضًا ـ لمن صلى بقوم لا يقنتون/بالوتر، وأرادوا من الإمام ألا يقنت لتأليفهم. فقد استحب ترك الأفضل لتأليفهم، وهذا يوافق تعليل القاضي. فيستحب الجهر بها إذا كان المأمومون يختارون الجهر لتأليفهم، ويستحب ـ أيضا ـ إذا كان فيه إظهار السنة، وهم يتعلمون السنة منه ولا ينكرونه عليه. وهذا كله يرجع إلى أصل جامع: وهو أن المفضول قد يصير فاضلا لمصلحة راجحة، وإذا كان المحرم كأكل الميتة قد يصير واجبًا للمصلحة الراجحة، ودفع الضرر، فلأن يصير المفضول فاضلا لمصلحة راجحة أولي. وكذلك يقال في أجناس العبادات كالصلاة: جنسها أفضل من جنس القراءة، والذكر. ثم إنها منهي عنها في أوقات النهي، فالقراءة والذكر والدعاء في ذلك الوقت أفضل من الصلاة، وكذلك الدعاء في مشاعر الحج بعرفة ومزدلفة ومني والصفا والمروة أفضل من القراءة ـ أيضا ـ بالنص والإجماع. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني نهيت أن اقرأ القرآن راكعًا وساجدًا) وهذا في الصحيح من حديث ابن عباس، ومن حديث على ـ أيضا ـ أنه نهاه عن ذلك، ولو قرأ هل تبطل صلاته؟ فيه وجهان في مذهب أحمد، فالنهي عن الصلاة والقراءة في المشاعر الفضيلة... /فإن الطهارة شرط في الصلاة، ولا يشترط له الطهارة، ولكل مكان عبادة تشرع، وكذلك ترك الصلاة وقت النهي مشروع في كل زمان. وأما الطواف فهل تكره فيه القراءة؟ فيه قولان مشهوران للعلماء، وهما روايتان عن أحمد، والرخصة مذهب الشافعي، بل هو يستحب فيه القراءة، ولا يستحب الجهر بها، وللأخري مصنف. وإذا كان هذا من أجناس العبادات التي ثبت فضل بعضها على بعض بالنص والإجماع، فكيف في أنواع الذكر لاسيما فيما فيه نزاع؟! فالأصل ـ بلا ريب ـ هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أنه كان يستفتح بهذا الاستفتاح الذي في حديث أبي هريرة، فالأفضل أن يستفتح به أحيانا، ويستفتح بغيره أحيانا. وأيضًا، فلكل استفتاح حاجة ليست لغيره، فيأخذ المؤمن بحظه من كل ذكر. وأيضًا، فقد يحتاج الإنسان إلى المفضول، ولا يكفيه الفاضل. كما في: وكذلك المخلوقات لكل مخلوق حكمة خلق لأجلها، فكذلك العبادات، فجميع ما شرعه الرسول له حكمة ومقصود ينتفع به مقصوده فلا يهمل ما شرعه من المستحبات. وإن قيل: إن جنس غيره أفضل فهو في زمانه ومكانه أفضل من غيره. والصلوات التي كان يدعو فيها بهذا الاستفتاح، كان دعاؤه فيها بهذا الاستفتاح أفضل من غيره وهو دعاؤه بالطهارة والتنقية من الذنوب والتبعيد عنها من جنس الاستغفار في السحر، وكاستغفاره عقب الصلاة، وقد كان يدعو بمثل هذا الدعاء في آخر قيام الاعتدال بعد التحميد، فكان يفتتح به القيام تارة، ويختم به القيام ـ أيضًا. وقد روي عنه في الاستفتاح أنواع وعامتها في قيام الليل، كما ذكر ذلك أحمد. ويستحب للمصلي بالليل أن يستفتح بها كلها، وهذا أفضل من أن يداوم على نوع ويهجر غيره، فإن هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يقال ـ أيضًا ـ: هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل، ومن الناس من لا يصلح له الأفضل، بل يكون فعله للمفضول/ أنفع. كمن ينتفع بالدعاء دون الذكر، أو بالذكر دون القراءة، أو بالقراءة دون صلاة التطوع، فالعبادة التي ينتفع بها فيحضر لها قلبه ويرغب فيها ويحبها، أفضل من عبادة يفعلها مع الغفلة وعدم الرغبة. كالغذاء الذي يشتهيه الإنسان وهو جائع: هو أنفع له من غذاء لا يشتهيه، أو يأكله وهو غير جائع. فكذلك يقال هنا: قد تكون مداومته على النوع المفضول أنفع لمحبته وشهود قلبه وفهمه ذلك الذكر. ونحن إذا قلنا: التنوع في هذه الأذكار أفضل، فهو ـ أيضًا ـ تفضيل لجنس التنوع. والمفضول قد يكون أنفع لبعض الناس لمناسبته له، كما قد يكون جنسه في الشرع أفضل في بعض الأمكنة والأزمنة والأحوال، فالمفضول تارة يكون أفضل مطلقًا في حق جميع الناس، كما تقدم. وقد يكون أفضل لبعض الناس؛ لأن انتفاعه به أتم. وهذه حال أكثر الناس قد ينتفعون بالمفضول لمناسبته لأحوالهم الناقصة ما لا ينتفعون بالفاضل الذي لا يصلون إلى أن يكونوا من أهله.
وكذلك [صلاة الخوف] إذا صلى مرة على وجه، ومرة على وجه، كان أتبع من حفظ وجه وترك آخر، وقد يكون على وجه/ أفضل في وقت لمناسبة حاله حال ذلك الوقت، وربما كان بعض الذكر والدعاء في بعض الأوقات أفضل. كذلك، فقد يكون في حال يكون الاستغفار أنفع له، وفي حال يكون إقراره للَّه بالتوحيد أفضل له، وفي حال يكون تسبيحه وتحميده وتهليله وتكبيره أفضل له. والذين يستحبون بعض المشروع ويكرهون بعضه، فإن الله ـ سبحانه ـ يقيم طائفة تقول هذا وطائفة تقول هذا، وطائفة تقول هذا، ويتنازعون. فإن بسبب النزاع تظهر كل طائفة من السنة ما قالت به وتركته الأخري، كالمختلفين في البسملة، هل تجب ويجهر بها؟ أم تكره قراءتها سرًا وجهرًا؟ يحتاج أولئك أن يظهروا ما يدل على أنها من القرآن آية مفردة تبعًا للسور، ويحتاج أولئك أن يظهروا ما يدل على أنها ليست من السور، ولا تجب قراءتها، وكلا القولين حق. وسورة [اقرأ] هي أول ما نزل من القرآن، وقد احتج بها كل من الطائفتين، وفيها حجة لما معه من الحق، فالذين قالوا: ليست من السور،قالوا: إن جبريل لما أتي النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بقراءتها، بل أمره أن يقرأ: وهنا قد أمر بالاستعاذة ـ أيضا ـ عند القراءة. وهو إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فقد امتثل ما أمر به فذكر اسم ربه إذا قرأ، وإنما لم يذكرها جبريل ابتداء؛ لأنه بعد لم يتعلم شيئًا من القرآن، لكن علمه هذا وأمره فيه بذكر اسم ربه إذا قرأ، فكان بعد هذا إذا قرأ السورة، يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، كما ثبت في صحيح مسلم أنه قال: (قد أنزل علي آنفًا سورة) ثم قرأ: ولكن هذه تدل على أنها تبع للقرآن المقصود؛ لما فيها من ذكر الله؛ ولهذا كتبت في المصاحف مفردة عن السورة لم تخلط بها، فهي قرآن مكتوب في المصاحف، لكن أنزل تبعًا لغيره، والمقصود غيره، فلهذا أفردت في الكتابة والتلاوة، ففي الكتابة تكتب مفردة، وفي التلاوة كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجهر بها، ولم يجعلها من القرآن المفروض في الحديث الصحيح بقوله: (يقول الله تعالي: قسمت الصلاة/ بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: وهذا قول جمهور العلماء في البسملة أنها آية من القرآن مفردة وليست من السورة، وأنه يقرأ بها في الصلاة سرًا، فلا تخرج من القرآن وتهجر، ولا تشبه بالقرآن المقصود فتجهر، وهي تشبه الاستعاذة من بعض الوجوه، لكن الاستعاذة ليست بقرآن، ولم تكتب في المصاحف وإنما فيه الأمر بالاستعاذة، وهذا قرآن. والفاتحة سبع آيات بالاتفاق. وقد ثبت ذلك بقوله: وقد كان كثير من السلف يقول: البسملة آية منها، ويقرؤها، وكثير من السلف لا يجعلها منها، ويجعل الآية السابعة /والمقصود أن يبتدأ القرآن بذكر اسم الله ، فهي أنزلت في أول السورة تبعًا لم تنزل في أواخر السور، وكتبت في المصاحف مفردة لكن تبعًا لما بعدها، لا لما قبلها. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أنزلت على آنفًا سورة) وقرأ : وفي السنن كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم فصل السورة حتى ينزل عليه والقراء منهم من يفصل بها بين السورتين، ومنهم من لا يفصل؛ لكون القرآن كله كلام الله ، فلا يفصلون بها بين السورتين، كمن سمي إذا أكل، ثم أكل أنواعًا من الطعام. ومنهم من يسمي في أول كل سورة، وهذا أحسن لمتابعته لخط المصحف، وهو بمنزلة رفع طعام، ووضع طعام. فالتسمية عنده أفضل. /وكذلك من ذبح شاة بعد شاة فالتسمية على كل شاة أفضل. وأما تلاوتها في أول الفاتحة فهو ابتداء بها للقرآن، ولهذا اختلف كلام أحمد، هل قراءتها في أول الفاتحة واجبة فرض لا تصح الصلاة إلا به؟ على روايتين. وذكر عنه روايتان في الاستعاذة والاستفتاح، فالبسملة أولي بالوجوب، ثم وجوبها قد يبتني على أنها من الفاتحة، وقد يقال بوجوبها وإن لم تكن من الفاتحة، كما يوجب الاستعاذة والاستفتاح؛ ولهذا لا يجعل الجهر بها تبعًا لوجوبها، بل يوجبها ويستحب المخافتة بها، ولو كانت من الفاتحة من كل وجه، لكان الجهر ببعض الفاتحة دون بعض بعيدًا عن الأصول، فإذا جعلت منها من وجه دون وجه، اتفقت الأدلة والأصول، وأعطي كل شيء من ذلك صفة، ولم يقل: إنها من القرآن في أول الفاتحة، ولو كقول من لم يجعلها من القرآن في حال إلا في سورة النمل. وقد قال طائفة: إنها من القرآن في قراءة دون قراءة، لتواتر هذه القراءات، فيقال: المتواتر هو الأمر الوجودي، وهو ما سمعوه من القرآن من الصحابة، وبلغوه عن الرسول، والقرآن في زمانه لم يكتب، ولا كان ترتيب السور على هذا الوجه أمرًا واجبًا، مأمورًا به من عند الله ، بل الأمر مفوض في ذلك إلى اختيار المسلمين؛ ولهذا كان لجماعة من الصحابة لكل منهم اصطلاح في ترتيب سوره غير/ اصطلاح الآخر. وحينئذ، فيكون الذين لا يقرؤونها، قد أقرأهم الرسول ولم يبسمل، وأولئك أقرأهم وبسمل. فهذا يدل على جواز الأمرين، وإن كان أحدهما أفضل لا يدل على أنها في أحد الحرفين ليست من القرآن، وأنه نهي عن قراءتها، فإن هذا جمع بين النقيضين، كيف يسوغ قراءتها والنهي عن قراءتها؟ بل هذا يدل على جواز الأمرين كالحروف التي ثبتت في قراءة دون قراءة مثل (من تحتها) ، ومثل (إن الله هو الغني) فالرسول يجوز إثبات ذلك، ويجوز حذفه، كلاهما جائز في شرعه. وبهذا يتبين أن من قال من الفقهاء: إنها واجبة على قراءة من أثبتها أو مكروهة على قراءة من لم يثبتها فقد غلط، بل القرآن يدل على جواز الأمرين. ومن قرأ بإحدي القراءات لا يقال: إنه كلما قرأ يجب أن يقرأ بها، ومن ترك ما قرأ به غيره لا يقول: إن قراءة أولئك مكروهة، بل كل ذلك جائز بالاتفاق. وإن رجح كل قوم شيئًا، وبهذا يتبين أن من أنكر كونها من القرآن بالكلية إلا في سورة النمل، وقطع بخطأ من أثبتها بناء على أن القرآنية لا تثبت إلا بالقطع، فهو مخطئ في ذلك، ويقال له: ولا تنفي إلا بالقطع ـ أيضا. ثم يقال له: من أثبتها يقطع بأنها ثابتة، ويقطع بخطأ من نفاها، بل التحقيق أن كون الشيء قطعيًا أو غير قطعي، أمر إضافي، والقراءات/ تدل على جواز الأمرين، ولكن القراءة بها أفضل. وهذا قول جمهور العلماء يجوزون هذا، ويرجحون قراءتها، ويخفونها عن غيرها من القرآن؛ لأنها تابعة لغيرها. و الله أعلم. والحمد للَّه رب العالمين. وصلي الله على سيدنا محمد. وآله وصحبه وسلم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
[قاعدة] في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية والرأي: مثل الأذان، والجهر بالبسملة، والقنوت في الفجر، والتسليم في الصلاة، ورفع الأيدي فيها، ووضع الأكف فوق الأكف. ومثل التمتع، والإفراد، والقِرَان في الحج، ونحو ذلك. فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة، والشعائر أوجب أنواعًا من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله، وعباده المؤمنون: أحدها: جهل كثير من الناس، أو أكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذي يحبه الله ورسوله، والذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، والذي أمرهم باتباعه. الثاني: ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض، وبغيهم عليهم، تارة بنهيهم عما لم ينه الله عنه، وبغضهم على من لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم، وصلتهم، لعدم موافقتهم له/علي الوجه الذي يؤثرونه، حتى يقدمون في الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات من يكون مؤخرًا عند الله ورسوله، ويتركون من يكون مقدما عند الله ورسوله لذلك. الثالث: اتباع الظن وما تهوى الأنفس، حتى يصير كثير منهم مدينًا باتباع الأهواء في هذه الأمور المشروعة. وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة من الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة: كالخوارج، والروافض، والمعتزلة، ونحوهم. وقد قال تعالى في كتابه: الرابع: التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضا، ويعاديه، ويحب بعضا ويواليه على غير ذات الله ، وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن، واللعن، والهمز، واللمز. وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح، وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض، وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله. /والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله، قال الله تعالي: وكثير من هؤلاء يصير من أهل البدعة بخروجه عن السنة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، ومن أهل الفرقة بالفرقة المخالفة للجماعة التي أمر الله بها ورسوله، قال تعالى: وهذا الأصل العظيم: وهو الاعتصام بحبل الله جميعًا، وألا يتفرق، هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله ـ تعالي ـ به في كتابه. ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة، مثل قوله: (عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة) ، وقوله:(فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد)، وقوله:(من رأي من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع رِبْقَة الإسلام من عنقه)، وقوله:(ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟) قالوا: بلي يا رسول الله .قال: (صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين). وقوله:(من جاءكم وأمركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم، فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان), وقوله: (يصلون لكم/فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم) ، وقوله: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، منها واحدة ناجية، واثنتان وسبعون في النار)، قيل: ومن الفرقة الناجية؟ قال: (هي الجماعة، يد الله على الجماعة) . وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمــة، بل وفي غيرهــا، هو التفــرق والاختلاف. فإنه وقع بين أمرائــها وعلمائهــا، من ملوكها ومشايخها، وغيرهم من ذلك ما الله به عليم. وإن كان بعـض ذلك مغفــورًا لصاحبــه لاجتهــاده الذي يغفر فيه خطؤه، أو لحسناته الماحية، أو توبتــه، أو لغير ذلـك، لكن يعلم أن رعايتــه من أعظم أصــول الإسلام ولهذا كان امتياز أهل النجــاة عن أهــل العــذاب من هذه الأمــة بالســنة والجماعة ويذكرون في كثير من السنن والآثار في ذلك ما يطول ذكره. وكان الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة الذي يجب تقديم العمل به هو الإجماع، فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة. النوع الخامس: هو شك كثير من الناس وطعنهم في كثير مما أهل السنة والجماعة عليه متفقون، بل وفي بعض ما عليه أهل الإسلام، بل وبعض ما عليه سائر أهل الملل متفقون، وذلك من جهة نقلهم وروايتهم تارة. ومن جهة تنازعهم ورأيهم أخري. /أما الأول، فقد علم الله الذكر الذي أنزله على رسوله، وأمر أزواج نبيه بذكره، حيث يقول: وعلموا كذب أهل الجهل والضلالة فيما قد يأثرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلمهم بكذب من يزعم من الرافضة أن النبي/ صلى الله عليه وسلم نص على علي بالخلافة نصًا قاطعًا جليًا، وزعم آخرين أنه نص على العباس. وعلموا أكاذيب الرافضة والناصبة ـ التي يأثرونها في مثل الغزوات التي يروونها عن على وليس لها حقيقة، كما يرويها المكذبون الطرقية مثل أكاذيبهم الزائدة في سيرة عنتر والبطَّال ـ حيث علموا مجموع مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن القتال فيها كان في تسعة مغاز فقط، ولم يكن عدة المسلمين ولا العدو في شيء من مغازي القتال عشرين ألفا. ومثل الفضائل المروية ليزيد بن معاوية ونحوه، والأحاديث التي يرويها كثير من الكَرَّامية في الإرجاء ونحوه، والأحاديث التي يرويها كثير من النساك في صلوات أيام الأسبوع، وفي صلوات أيام الأشهر الثلاثة، والأحاديث التي يروونها في استماع النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، وتواجده، وسقوط البردة عن ردائه، وتمزيقه الثوب، وأخذ جبريل لبعضه، وصعوده به إلى السماء، وقتال أهل الصفة مع الكفار، واستماعهم لمناجاته ليلة الإسراء، والأحاديث المأثورة في نزول الرب إلى الأرض يوم عرفة، وصبيحة مزدلفة، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له في الأرض بعين رأسه، وأمثال هذه الأحاديث المكذوبة التي يطول وصفها. فإن المكذوب من ذلك لا يحصيه أحد إلا الله تعالي؛ لأن الكذب يحدث شيئًا فشيئًا ليس بمنزلة الصدق/ الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يحدث بعده، وإنما يكون موجودًا في زمنه صلى الله عليه وسلم، وهو محفوظ محروس بنقل خلفاء الرسول، وورثة الأنبياء. وكان من الدلائل على انتفاء هذه الأمور المكذوبة وغيرها وجوه: أحدها: أن مـا توفرت همم الخلـق ودواعيهم على نقلـه وإشاعتـه يمتنع في العادة كتمانه، فانفراد العدد القليل به يدل على كذبهم، كما يعلم كذب من خرج يوم الجمعة وأخـبر بحادثة كبيرة في الجامع مثل سقوط الخطيب وقتله، وإمساك أقوام في المسجد، إذا لم يخـبر بذلك إلا الواحـد والاثنان. ويعلم كـذب مـن أخبر أن في الطـرقات بـلادًا عظيـمة وأمما كثـيرين، ولم يخبر بذلك السيارة، وإنما انفرد به الواحد والاثنان، ويعلم كـذب مـن أخبر بمعـادن ذهب وفضـة متيسرة لمن أرادها بمكان يعلمه الناس، ولم يخبر بذلك إلا الواحـد والاثنان. وأمثـال ذلك كثيـرة فباعتبار العقل وقياسه وضربه الأمثال، يعلم كـذب مـا ينقل من الأمور التي مضت سنة الله بظهورها وانتشارها، لو كانت موجودة. كما يعلم ـ أيضا ـ صدق ما مضت سنة الله في عباده أنهم لا يتواطؤون فيه على الكذب، من الأمور المتواترة، والمنقولات المستفيضة. فإن الله جبل جماهير الأمم على الصدق والبيان، في مثل هذه الأمور، دون/ الكذب والكتمان، كما جبلهم على الأكل والشرب واللباس، فالنفس بطبعها تختار الصدق، إذا لم يكن لها في الكذب غرض راجح وتختار الأخبار بهذه الأمور العظيمة دون كتمانها. والناس يستخبر بعضهم بعضًا، ويميلون إلى الاستخبار والاستفهام عما يقع. وكل شخص له من يؤثر أن يصدقه، ويبين له دون أن يكذبه ويكتمه. والكذب والكتمان يقع كثيرًا في بني آدم في قضايا كثيرة لا تنضبط، كما يقع منهم الزنا وقتل النفوس والموت جوعًا وعريًا ونحو ذلك، لكن ليس الغالب على أنسابهم إلا الصحة، وعلي أنفسهم إلا البقاء، فالغرض هنا أن الأمور المتواترة يعلم أنهم لم يتواطؤوا فيها على الكذب، والأخبار الشاذة يعلم أنهم لم يتواطؤوا فيها على الكتمان. الوجه الثاني: أن دين الأمة يوجب عليهم تبليغ الدين، وإظهاره وبيانه، ويحرم عليهم كتمانه، ويوجب عليهم الصدق، ويحرم عليهم الكذب، فتواطؤهم على كتمان ما يجب بيانه، كتواطئهم على الكذب وكلاهما من أقبح الأمور التي تحرم في دين الأمة، وذلك باعث موجب الصدق والبيان. الثالث: أنه قد علم من عدل سلف الأمة ودينها وعظيم رغبتها في تبليغ الدين وإظهاره وعظيم مجانبتها للكذب على الرسول / صلى الله عليه وسلم ما يوجب أعظم العلوم الضرورية، بأنهم لم يكذبوا فيما نقلوه عنه، ولا كتموا ما أمرهم بتبليغه، وهذه العادة الحاجية الخاصة الدينية لهم غير العادة العامة المشتركة بين جنس البشر. الرابع: أن العلماء الخاصة يعلمون من نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجبة عليهم التبليغ، ومن تعظيمهم لأمر الله ورسوله، ومن دين آحادهم ـ مثل الخلفاء، ومثل ابن مسعود، وأبي، ومعاذ، وأبي الدرداء إلى ابن عمر، وابن عباس، وابن عمرو، وغيرهم. يعلمون علما يقينا ـ لا يتخالجه ريب ـ امتناع هؤلاء من كتمان قواعد الدين التي يجب تبليغها إلى العامة، كما يعلمون امتناعهم من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويعلم ـ أيضًا ـ أهل الحديث مثل أحوال المشاهير بمعرفة ذلك مثل: الزهري وقتادة ويحيي ابن أبي كثير، ومثل مالك والثوري وشعبة وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وغيرهم أمورًا يعلمون معها امتناعهم من الكذب، وامتناعهم عن كتمان تبليغ هذه الأمور العظيمة التي تأبي أحوالهم كتمانها، لو كانت موجودة، ولهم في ذلك أسباب يطول شرحها وليس الغرض هنا تقرير ذلك. وإنما الغرض التنبيه على ما وقع من الشبهة لبعض الناس من أهل الأهواء. /قالوا: هذا الذي ذكرتموه معارض بأمر الأذان والإقامة، فإنه كان يفعل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم خمس مرات، ومع هذا فقد وقع الاختلاف في صفته. وكذلك الجهر بالبسملة، والقنوت في الفجر، وحجة الوداع من أعظم وقائعه، وقد وقع الاختلاف في نقلها، وذكروا نحو هذه الأمور التي وقعت فيها الشبهة والنزاع عند بعض الناس، وجعلوا هذا معارضًا لما تقدم ليسوغوا أن يكون من أمور الدين ما لم ينقل، بل كتم لأهواء وأغراض. وأما جهة الرأي والتنازع، فإن تنازع العلماء واختلافهم في صفات العبادات، بل وفي غير ذلك من أمور الدين صار شبهة لكثير من أهل الأهواء من الرافضة وغيرهم، وقالوا: إن دين الله واحد، والحق لا يكون في جهتين: فهذا التفرق والاختلاف، دليل على انتفاء الحق فيما عليه أهل السنة والجماعة، ويعبرون عنهم بعبارات تارة يسمونهم الجمهور، وتارة يسمونهم الحشوية، وتارة يسمونهم العامة، ثم صار أهل الأهواء لما جعلوا هذا مانعًا من كون الحق فيما عليه أهل السنة والجماعة، كل ينتحل سبيلا من سبل الشيطان. /فالرافضة تنتحل النقل عن أهل البيت لما لا وجود له. وأصل من وضع ذلك لهم زنادقة، مثل رئيسهم الأول عبد الله بن سبأ، الذي ابتدع لهم الرفض، ووضع لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بالخلافة، وأنه ظُلِم ومُنِع حقه، وقال: إنه كان معصومًا، وغرض الزنادقة بذلك التوسل إلى هدم الإسلام؛ ولهذا كان الرفض باب الزندقة والإلحاد، فالصابئة المتفلسفة ومن أخذ ببعض أمورهم، أو زاد عليهم ـ من القرامطة والنصيرية والإسماعيلية والحاكمية وغيرهم ـ إنما يدخلون إلى الزندقة والكفر بالكتاب والرسول، وشرائع الإسلام من باب التشيع والرفض، والمعتزلة ونحوهم تنتحل القياس والعقل. وتطعن في كثير مما ينقله أهل السنة والجماعة، ويعللون ذلك بما ذكر من الاختلاف ونحوه. وربما جعل ذلك بعض أرباب الملة من أسباب الطعن فيها، وفي أهلها، فيكون بعض هؤلاء المتعصبين ببعض هذه الأمور الصغار ساعيًا في هدم قواعد الإسلام الكبار.
|